كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



هَذِهِ الشَّهَادَةُ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ لِلطَّبَقَاتِ الثَّلَاثِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدْمَغُ حَقُّهَا بَاطِلَ الرَّوَافِضِ الَّذِينَ يَطْعَنُونَ فِيهِمْ، وَيُحْثُونَ التُّرَابَ فِي أَفْوَاهِهِمْ، وَالَّذِي سَنَّ لَهُمْ هَذَا الطَّعْنَ فِي جُمْهُورِهِمُ الْأَعْظَمِ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَبَأٍ الْيَهُودِيُّ الَّذِي أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ لِأَجْلِ إِيقَاعِ الشِّقَاقِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَإِفْسَادِ أَمْرِهِمْ، ثُمَّ نَظَّمَ الدَّعْوَةَ لِذَلِكَ زَنَادِقَةُ الْمَجُوسِ بَعْدَ فَتْحِ الْمُسْلِمِينَ لِبِلَادِهِمْ، كَمَا بَيَّنَّاهُ مِرَارًا. ثُمَّ جَعَلَ الرَّفْضَ مَذْهَبًا لَهُ فِرَقٌ ذَاتُ عَقَائِدَ، مِنْهَا مَا هُوَ كُفْرٌ صَرِيحٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ ابْتِدَاعٌ قَبِيحٌ. وَمِنْهَا مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي صَخْرٍ حُمَيْدِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: أَتَيْتُ مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ الْقُرَظِيَّ فَقُلْتُ لَهُ: مَا قَوْلُكَ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: جَمِيعُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْجَنَّةِ مُحْسِنُهُمْ وَمُسِيئُهُمْ. فَقُلْتُ: مِنْ أَيْنَ تَقُولُ هَذَا؟ قَالَ اقْرَأْ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ}- إِلَى أَنْ قَالَ: {رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} وَقَالَ: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} شَرَطَ فِي التَّابِعِينَ شَرِيطَةً وَهِيَ أَنْ يَتَّبِعُوهُمْ فِي أَفْعَالِهِمُ الْحَسَنَةِ دُونَ السَّيِّئَةِ.
قال أَبُو صَخْرٍ: فَكَأَنِّي لَمْ أَقْرَأْ هَذِهِ الْآيَةَ قَطُّ.
وَالتَّحْقِيقُ مَا قُلْنَاهُ. فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا بَعْدَهَا فِي بَيَانِ حَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي عَهْدِ نُزُولِهَا مُؤْمِنِيهِمْ وَمُنَافِقِيهِمْ. وَمُحْسِنِيهِمْ وَمُسِيئِيهِمْ وَالَّذِينَ خَلَطُوا مِنْهُمْ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا وَالَّذِينَ تَابَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَالَّذِينَ أَرْجَأَ تَوْبَتَهُمْ. وَهَذِهِ الْآيَةُ نَصٌّ فِي أَنَّ الطَّبَقَاتِ الثَّلَاثَ مِنَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ فِي الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ- عِنْدَمَا أُبِيحَتِ الْهِجْرَةُ وَتَيَسَّرَتْ أَسْبَابُهَا بِصُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ قَدْ فَازُوا كُلُّهُمْ بِرِضَاءِ اللهِ وَوَعْدِهِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ أَحَدٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بَلْ كَانَ جَمِيعُ الْمُنَافِقِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا إِلَى أَنْ فُتِحَتْ مَكَّةُ وَأَعْتَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَهْلَهَا فَأَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ وَالسُّيُوفُ تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ فَكَانَ مِنْهُمُ الْمُنَافِقُونَ وَضُعَفَاءُ الْإِيمَانِ الْمُقَلِّدُونَ، وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا سَبَبَ الْهَزِيمَةِ فِي حُنَيْنٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ (25- 27) ثُمَّ حَسُنَ إِسْلَامُ الْأَكْثَرِينَ، فَفَتَحُوا الْفُتُوحَاتِ وَنَشَرُوا الْإِسْلَامَ فِي الْعَالَمِينَ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ جَمِيعَ أَفْرَادِ هَذِهِ الطَّبَقَاتِ الثَّلَاثِ، قَدْ جَازُوا الْقَنْطَرَةَ وَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ، وَمَا عَادَ يُؤَثِّرُ فِي كَمَالِ إِيمَانِهِمْ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ نُورَهُمْ يَمْحُو كُلَّ ظُلْمَةٍ تَطْرَأُ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ بِإِلْمَامِهِ بِذَنْبٍ. وَإِذَا كَانَ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ يَقُولُ: إِنَّ مَنِ اتَّفَقَ الشَّيْخَانِ عَلَى تَعْدِيلِهِ فِي الرِّوَايَةِ- أَيِ اعْتَمَدَا عَلَيْهِ فِي أُصُولِهِمَا الْمُسْنَدَةِ- قَدْ جَازَ قَنْطَرَةَ الْجَرْحِ، فَمَاذَا يُقَالُ فَيَمَنْ عَدَّلَهُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَشَهِدَ لَهُمْ بِأَنَّهُ رَضِيَ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ؟؟ وَسَيَأْتِي أَنَّ اللهَ تَعَالَى تَابَ عَلَى الْمُذْنِبِينَ وَالْمُقَصِّرِينَ وَغَفَرَ لَهُمْ وَلِلشَّيْخِ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ عَرَبِيٍّ مُنَاظَرَةٌ مَعَ نَفْسِهِ بَسَطَهَا فِي كِتَابِهِ (رُوحُ الْقُدُسِ) ذَكَرَ فِيهَا أَنَّهُ فِي أَثْنَاءِ مُجَاوَرَتِهِ بِمَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ حَدَثَ لِنَفْسِهِ مِنَ الْإِعْجَابِ بِعِبَادَتِهَا وَمَعْرِفَتِهَا مَا دَعَاهُ إِلَى مُنَاظَرَتِهَا وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهَا بِغُرُورِهَا، فَعَرَضَهَا أَوَّلًا عَلَى الْقُرْآنِ، فَاعْتَرَفَتْ بِضَعْفِهَا عَنْ بُلُوغِ مَا قَرَّرَهُ مِنْ أَوْجِ الْكَمَالِ، فَعَرَضَهَا عَلَى سِيرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَعْذَرَتْ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ: «كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ» وَهُوَ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ مِنْ دُونِهِ كُلُّ إِنْسَانٍ، فَعَرَضَهَا عَلَى فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ فَأَقَرَّتْ بِعَجْزِهَا عَنِ الرُّجْحَانِ فِي هَذَا الْمِيزَانِ، وَمُسَابَقَةِ مَنْ رَبَّاهُمُ الْمُصْطَفَى بِكِتَابِ اللهِ وَآيَاتِهِ، وَزَكَّاهُمْ بِحِكْمَتِهِ فَاقْتَبَسُوا نُورَهُ مِنْ مِشْكَاتِهِ، وَلَكِنَّهَا أَبَتْ أَنْ تَعْتَرِفَ لِكِبَارِ التَّابِعِينَ بِمِثْلِ هَذَا السَّبْقِ، كَانَ لَهُ مَعَهَا حِجَاجٌ فِي أُوَيْسٍ الْقَرَنِيِّ، وَهُوَ مِنْ أَعْلَى حَقَائِقِ عِلْمِ النَّفْسِ.
{وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ} بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ تَعَالَى حَالَ كَمَلَةِ الْمُؤْمِنِينَ كُلِّهِمْ قَفَّى عَلَيْهِ بِذِكْرِ مَرَدَةِ الْمُنَافِقِينَ مِنْ أَهْلِ الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ، وَعَطْفُهُمْ عَلَيْهِمْ مِنْ بَابِ عَطْفِ الضِّدِّ عَلَى الضِّدِّ، فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ بَعْضَ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ حَوْلَكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مُنَافِقُونَ.
قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَهُمْ مِنْ مُزَيْنَةَ وَجُهَيْنَةَ وَأَشْجَعَ وَأَسْلَمَ وَغِفَارَ، كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ حَوْلَ الْمَدِينَةِ، أَيْ كَمَا كَانَ فِيهِمْ مُؤْمِنُونَ صَادِقُونَ دَعَا لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ نَفْسِهَا مُنَافِقِينَ أَيْضًا مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ غَيْرَ مَنْ أَعْلَمَ اللهُ وَرَسُولُهُ بِهِمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِمَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الْمُنَافِيَةِ لِلْإِيمَانِ، وَقَدْ وَصَفَ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِ: {مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} أَيْ مُرِّنُوا عَلَيْهِ وَحَذَقُوهُ حَتَّى بَلَغُوا الْغَايَةَ مِنْ إِتْقَانِهِ وَجَعْلِهِ بِحَيْثُ لَا يَشْعُرُ أَحَدٌ بِهِ لِاتِّقَائِهِمْ جَمِيعَ الْأَمَارَاتِ وَالشُّبُهَاتِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهِ. يُقَالُ: مَرَدَ عَلَى الشَّيْءِ يَمْرُدُ (كَقَعَدَ يَقْعُدُ) مُرُودًا إِذَا مُرِّنَ عَلَيْهِ. وَإِذَا عَتَا وَاشْتَدَّ فِيهِ حَتَّى يَتَعَذَّرَ إِرْجَاعُهُ عَنْهُ. وَمِنَ الْأَوَّلِ الْغُلَامُ الْأَمْرَدُ الَّذِي لَمْ يَنْبُتِ الشَّعْرُ فِي وَجْهِهِ، وَالشَّجَرَةُ الْمَرْدَاءُ الَّتِي لَا وَرَقَ فِيهَا، وَمِنْهُ مَرَّدَ الشَّيْءَ تَمْرِيدًا إِذَا صَقَّلَهُ وَمَلَّسَهُ حَتَّى صَارَ أَمْلَسَ لَا حُرْشَةَ فِيهِ وَلَا خُشُونَةَ، وَمِنْهُ {صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} (27: 44) قَالَ فِي اللِّسَانِ وَتَأْوِيلُ الْمُرُودِ أَنْ يَبْلُغَ الْغَايَةَ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ جُمْلَةِ مَا عَلَيْهِ الصِّنْفُ. ثُمَّ قَالَ: وَالْمُرُودُ عَلَى الشَّيْءِ الْمُرُونُ عَلَيْهِ، وَمَرَدَ عَلَى الْكَلَامِ: أَيُّ مَرُنَ عَلَيْهِ لَا يَعْبَأُ بِهِ- أَيْ لَا يُعْنَى أَنْ يَتَكَلَّفَ لَهُ- قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ}، قَالَ الْفَرَّاءُ: يُرِيدُ مَرَنُوا عَلَيْهِ وَجُرِّبُوا كَقَوْلِكَ: تَمَرَّدُوا، وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْمَرَدُ التَّطَاوُلُ بِالْكِبْرِ وَالْمَعَاصِي وَمِنْهُ قوله: {مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} أَيْ تَطَاوَلُوا. اهـ.
{لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} أَيْ لَا تَعْرِفُهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ بِفِطْنَتِكَ وَدِقَّةِ فَرَاسَتِكَ الَّتِي تَنْظُرُ فِيهَا بِنُورِ اللهِ لِحِذْقِهِمْ وَتَجَنُّبِ مَثَارَاتِ الشُّبْهَةِ، وَأُكِّدَ هَذَا النَّفْيُ بِإِثْبَاتِ الْعِلْمِ بِأَعْيَانِهِمْ لَهُ وَحْدَهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَعَلَّهُمْ أَخْفَى نِفَاقًا وَأَشَدُّ تَقِيَّةً مِمَّنْ قَالَ فِيهِمْ: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغَانَهُمْ وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} (47: 29، 30).
فَهَؤُلَاءِ مِمَّنْ لَمْ يُعْلِمْهُ اللهُ بِأَعْيَانِهِمْ كَمَا أَعْلَمَهُ بِمَنْ أُشِيرَ إِلَيْهِمْ فِي الْآيَةِ (74) وَلَا فَضَحَهُمْ بِأَقْوَالٍ قَالُوهَا وَلَا بِأَفْعَالٍ فَعَلُوهَا كَمَا فَضَحَ غَيْرَهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ؛ لِأَنَّهُمْ بِمُرُودِهِمْ عَلَى النِّفَاقِ يَتَحَامَوْنَ مَا يَكُونُ شُبْهَةً عَلَى إِيمَانِهِمْ، فَضَرَرُهُ قَاصِرٌ عَلَيْهِمْ، وَحِكْمَةُ إِخْبَارِهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِذَلِكَ أَنْ يَعْلَمُوا هُمْ أَنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يُسِرُّونَ مِنْ نِفَاقِهِمْ، وَيَحْذَرُوا أَنْ يَفْضَحَهُمْ كَمَا فَضَحَ غَيْرَهُمْ؛ لِيَتُوبَ الْمُسْتَعِدُّ لِلْإِيمَانِ مِنْهُمْ وَهُوَ فِي سِتْرِ اللهِ تَعَالَى قَبْلَ أَنْ يُنْجِزَ مَا أَوْعَدَهُمْ بِقَوْلِهِ: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} أَيْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، إِحْدَاهُمَا: مَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الْمَصَائِبِ وَتَوْبِيخِ الضَّمَائِرِ، وَانْتِظَارِ الْفَضِيحَةِ بِهَتْكِ أَسْتَارِ السَّرَائِرِ وَمَا يَتْلُو ذَلِكَ مِنْ جِهَادِهِمْ إِذَا ظَهَرَ نِفَاقُهُمْ كَغَيْرِهِمْ، وَالثَّانِيَةُ: آلَامُ الْمَوْتِ، وَزُهُوقُ أَنْفُسِهِمْ وَهُمْ كَافِرُونَ، وَضَرْبُ الْمَلَائِكَةِ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ عِنْدَ مَوْتِهِمْ، فَأَقْرُبُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْعَذَابُ مَرَّتَيْنِ هُوَ مَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ (55، 73، 74، 82، 85) فَفِيهِ بَيَانٌ لِكُلِّ مَا يُصِيبُ الْمُنَافِقِينَ فِي الدُّنْيَا مِنْ عَذَابِ الْوِجْدَانِ الْبَاطِنِ، وَعَذَابِ مَنْ يَفْتَضِحُ أَمْرُهُمْ فِي الظَّاهِرِ، وَوَرَدَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ أَقْوَالٌ فِي هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ بَعْضُهَا فِي مَعْنَى مَا ذَكَرْنَا وَبَعْضُهَا مَرْدُودٌ وَمُتَنَاقِضٌ.
{ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} أَيْ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ عَذَابُ جَهَنَّمَ، وَهُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْهَا كَمَا تَقَدَّمَ.
جَاءَ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ النَّاسَ مَرَّةً فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: {إِنَّ مِنْكُمْ مُنَافِقِينَ فَمَنْ سَمَّيْتُهُ فَلْيَقُمْ} ثُمَّ قَالَ قُمْ يَا فُلَانُ- حَتَّى سَمَّى 36 رَجُلًا فَإِنْ صَحَّ فَهُوَ عَدَدُ الَّذِينَ سَبَقَ تَهْدِيدُهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ لِظُهُورِ نِفَاقِهِمْ دُونَ الَّذِينَ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ، وَلَكِنْ لَمْ يُرْوَ لَنَا مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ هَؤُلَاءِ بَعْدَ هَذِهِ الْفَضِيحَةِ بِكُفْرِهِمْ وَمَنْعِهِمْ مِنَ الصَّلَاةِ وَمُقْتَضَاهُ أَنْ تَجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَخْفَى وَتَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ بِالتَّوَاتُرِ أَوِ الِاسْتِفَاضَةِ، وَلَمْ يَرْوِ لَنَا الْمُحَدِّثُونَ شَيْئًا فِيهِ، وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّ الرِّوَايَةَ غَيْرُ صَحِيحَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَالْعِبْرَةُ فِي هَذَا السِّيَاقِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ فَرِيقَانِ: فَرِيقٌ عُرِفُوا بِأَقْوَالٍ قَالُوهَا وَأَعْمَالٍ عَمِلُوهَا، وَفَرِيقٌ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ وَحَذَقُوهُ حَتَّى صَارَ أَمْلَسَ نَاعِمًا لَا يَكَادُ يَشْعُرُ أَحَدٌ بِشَيْءٍ يَسْتَنْكِرُهُ مِنْهُ فَيَظْهَرُ عَلَيْهِ، وَكُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ يُوجَدُ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَلاسيما مُنَافِقِي السِّيَاسَةِ فِي هَذَا الْعَهْدِ، وَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذَهُمُ الْأَجَانِبُ الْمُعْتَدُونَ عَلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ دُعَاةً وَوَلَائِجَ وَأَعْوَانًا عَلَى اسْتِعْبَادِ أُمَّتِهِمْ وَاسْتِعْمَارِ أَوْطَانِهِمْ، فَمَا مِنْ قُطْرٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْطَارِ الَّتِي رُزِئَتْ بِالْأَجَانِبِ إِلَّا وَلَهُمْ فِيهَا أَعْوَانٌ وَأَنْصَارٌ مِنْ أَهْلِهَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَخْدِمُونَ أُمَّتَهُمْ وَوَطَنَهُمْ مِنْ طَرِيقِ اسْتِمَالَتِهِمْ وَاسْتِرْضَائِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَوْلَاهُمْ لَمَا وُفِّقُوا مِنَ الظُّلْمِ وَهَضْمِ الْحُقُوقِ عِنْدَ الْحَدِّ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْدِمُونَ الْأَجَانِبَ خِدَمًا خَفِيَّةً لَا تَشْعُرُ بِهَا الْأُمَّةُ لِأَنَّهُمْ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ الْخَوَنَةُ الْخَادِمُونَ لِلْأَجَانِبِ إِلَى نِفَاقٍ، وَتَلْبِيسِ خِيَانَتِهِمْ وَإِخْفَائِهَا بِالْكَذِبِ وَالِاخْتِلَاقِ، إِذَا كَانَ لِلرَّأْيِ الْعَامِّ فِطْنَةٌ وَقُوَّةٌ يَخْشَوْنَهَا، وَأَمَّا الْبِلَادُ الَّتِي اسْتَحْوَذَ عَلَيْهَا الْجَهْلُ وَالضَّعْفُ فَلَا يُبَالِي الْخَائِنُونَ بِرِضَاءِ أَهْلِهَا وَلَا بِسُخْطِهِمْ.
وَأَشَدُّ الْمُنَافِقِينَ مُرُودًا وَإِتْقَانًا لِلنِّفَاقِ أَعْوَانُ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ الْمُسْتَبِدِّينَ، وَشَرُّهُمْ وَأَضَرُّهُمُ الَّذِينَ يَلْبَسُونَ لِبَاسَ عُلَمَاءِ الدِّينِ.
{وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} أَيْ وَثَمَّ آخَرُونَ، أَوْ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أُنَاسٌ آخَرُونَ لَيْسُوا مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَلَا مِنَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، وَلَا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ لَا إِسَاءَةَ فِيهِ، بَلْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُذْنِبِينَ: {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} أَيْ خَلَطُوا فِي أَعْمَالِهِمْ بِأَنْ عَمِلُوا عَمَلًا صَالِحًا وَعَمَلًا سَيِّئًا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ خَلَطُوا صَالِحًا بِسَيِّئٍ وَسَيِّئًا بِصَالِحٍ أَوْ خَلَطُوا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَكَانَ نَاقِصًا وَلَكِنَّهُ لَمْ يُغَلِّبِ الْآخَرَ وَيَنْدَغِمْ فِيهِ، فَلَمْ يَكُونُوا مِنَ الصَّالِحِينَ الْخُلَّصِ وَلَا مِنَ الْفَاسِقِينَ أَوِ الْمُنَافِقِينَ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَاقْتَرَفُوا بَعْضَ السَّيِّئَاتِ، وَهُمْ أَوْ مِنْهُمْ بَعْضُ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنِ النَّفْرِ وَالْخُرُوجِ إِلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ صَحِيحٍ كَالضُّعَفَاءِ وَالْمَرْضَى وَغَيْرِ الْوَاجِدِينَ، وَلَا اسْتِئْذَانٍ كَاسْتِئْذَانِ الْمُرْتَابِينَ وَلَا اعْتِذَارٍ كَاذِبٍ كَالْمُنَافِقِينَ، ثُمَّ كَانُوا نَاصِحِينَ لِلَّهِ فِي أَثْنَاءِ قُعُودِهِمْ شَاعِرِينَ بِذَنْبِهِمْ، خَائِفِينَ مِنْ رَبِّهِمْ، فَكَانَ كُلٌّ مِنْ قُعُودِهِمْ وَنُصْحِهِمْ مُقْتَرِنًا بِالْآخَرِ، كَالَّذِي يَدْخُلُ أَرْضًا مَغْصُوبَةً فَيُصْلِحُ فِيهَا، وَيَعْتَرِفُ بِأَنَّهُ مُذْنِبٌ بِدُخُولِهَا وَيَأْتِي بِالْإِصْلَاحِ لِتَكْفِيرِ ذَنْبِ الِاعْتِدَاءِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُؤَدِّيهِ قَوْلُكَ: خَلَطَ الْعَمَلَ الصَّالِحَ بِالسَّيِّئِ، كَمَا تَقُولُ خَلَطَ الْقَمْحَ بِالشَّعِيرِ أَوِ الْمَاءَ بِاللَّبَنِ؛ لِأَنَّ هَذَا الضَّرْبَ مِنَ الْخَلْطِ يَصِيرُ فِيهِ الْمَخْلُوطُ وَالْمَخْلُوطُ بِهِ شَيْئًا وَاحِدًا أَوْ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ فَلَا يَقُولُ صَاحِبُهُ: عِنْدِي مَاءٌ فُرَاتٌ، وَلَا لَبَنٌ مَحْضٌ. وَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ فَقَدْ بَقِيَ فِيهِ كُلُّ نَوْعَيْنِ مُمْتَازًا بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا خَلْطُهُ مَعَ الْآخَرِ عِبَارَةٌ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَعَدَمِ انْفِرَادِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، وَالْوَاوُ الْعَاطِفَةُ هِيَ الَّتِي تُؤَدِّي هَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْجَمْعِ، وَهُوَ مِنْ دَقَائِقِ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ بِالْعُدُولِ عَنِ التَّعْدِيَةِ بِالْبَاءِ إِلَى الْعَطْفِ.
{عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} أَيْ هُمْ مَحَلُّ الرَّجَاءِ لِقَبُولِ اللهِ تَوْبَتَهُمْ، الَّتِي يُشِيرُ إِلَى وُقُوعِهَا اعْتِرَافُهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ (فِي ص190 ج10. ط الْهَيْئَةِ) أَنَّ كَلِمَةَ {عَسَى} وُضِعَتْ لِلتَّقْرِيبِ وَالْإِطْمَاعِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَتْ فِي الرَّجَاءِ كَلَعَلَّ، وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّهَا مِنَ اللهِ لِلْإِيجَابِ- غَيْرُ صَحِيحٍ، أَوْ لِتَوْفِيقِهِمْ لِلتَّوْبَةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ التَّوْبَةُ: بِالْعِلْمِ الصَّحِيحِ بِقُبْحِ الذَّنْبِ وَسُوءِ عَاقِبَتِهِ وَأَلَمِ الْوِجْدَانِ مِنْ تَصَوُّرِ سَخَطِ اللهِ وَالْخَوْفِ مِنْ عِقَابِهِ، وَالْإِقْلَاعِ عَنِ الذَّنْبِ أَوِ الذُّنُوبِ؛ بِبَاعِثِ هَذَا الْأَلَمِ الَّذِي هُوَ ثَمَرَةُ ذَلِكَ الْعِلْمِ، وَالْعَزْمِ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ إِلَى اقْتِرَافِهَا، ثُمَّ الْعَمَلِ بِضِدِّهَا؛ لِيُمْحَى مِنَ النَّفْسِ أَثَرُهَا، وَالرِّوَايَاتُ صَرِيحَةٌ بِأَنَّ اعْتِرَافَ مَنْ ذَكَرَ بِذُنُوبِهِمْ قَدِ اسْتَتْبَعَ كُلَّ هَذَا.
{إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} تَعْلِيلٌ لِرَجَاءِ قَبُولِ تَوْبَتِهِمْ، إِذْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَثِيرُ الْمَغْفِرَةِ لِلتَّائِبِينَ وَاسِعُ الرَّحْمَةِ لِلْمُحْسِنِينَ، كَمَا قَالَ: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (20: 82) وَكَمَا قَالَ: {إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (7: 56) وَكَمَا قَصَّ عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِ اسْتِغْفَارِ الْمَلَائِكَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ قَوْلَهُمْ: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينِ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} (40: 7- 9).
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَرْجَى آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ، وَقَالَ آخَرُونَ أَرْجَى الْآيَاتِ قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (39: 53) وَإِنَّمَا هَذَا عِلَاجٌ لِمَنِ اشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْخَوْفُ مِنْ إِسْرَافِهِمْ فِي شَهَوَاتِهِمْ، حَتَّى كَادُوا يَقْنَطُونَ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِمْ لَا لِلْمُصِرِّينَ عَلَى ذُنُوبِهِمْ بِغَيْرِ مُبَالَاةٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَهَا: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} (39: 54) إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ.
وَمِنَ الْعِبْرَةِ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ لِلْمُسْلِمِينَ أَنَّ قِسْمَ الَّذِينَ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا يُوجَدُ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، كَقِسْمِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَمَّا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ الْأَوَّلُونَ الَّذِينَ أَقَامَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم بِهِمْ بِنَاءَ الْإِسْلَامِ فَهُمُ الَّذِينَ لَا يَلْزَبُهُمْ قَرِينٌ. وَلَا يَلْحَقُهُمْ لَاحِقٌ مِنَ الْعَالَمِينَ، وَلَعَلَّ أَكْثَرَ الْمُسْلِمِينَ الصَّادِقِينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنَ الَّذِينَ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا، وَلَعَلَّ أَسْوَأَ سَيِّئَاتِهِمْ تَرْكُ الْجِهَادِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَجِبُ أَنْ يَسْتَرْشِدُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَبِمَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا مِنْ تَوْبَةِ أَبِي لُبَابَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَلَا تَتِمُّ الْعِبْرَةُ بِهَا، إِلَّا بِتَدَبُّرِ مَا بَعْدَهَا، وَهُوَ تَطْهِيرُ النَّفْسِ مِنَ النِّفَاقِ وَضَعْفِ الْإِيمَانِ، بِبَذْلِ الصَّدَقَاتِ وَغَيْرِهِ مِنْ صَالِحِ الْأَعْمَالِ.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ فِي صَحِيحِهِ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ مَرْفُوعًا: «أَتَانِي اللَّيْلَةَ (أَيْ فِي النَّوْمِ) مَلَكَانِ فَابْتَعَثَانِي فَانْتَهَيَا بِي إِلَى مَدِينَةٍ بِلَبِنٍ ذَهَبٍ، وَلَبِنٍ فِضَّةٍ فَتَلَقَّانَا رِجَالٌ شَطْرٌ مِنْ خَلْقِهِمْ كَأَحْسَنَ مَا أَنْتَ رَاءٍ، وَشَطْرٌ كَأَقْبَحَ مَا أَنْتَ رَاءٍ قَالَا لَهُمْ: اذْهَبُوا فَقَعُوا فِي ذَلِكَ النَّهْرِ، فَوَقَعُوا فِيهِ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَيْنَا قَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ السُّوءُ عَنْهُمْ فَصَارُوا فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، قَالَا لِي: هَذِهِ جَنَّةُ عَدْنٍ وَهَذَا مَنْزِلُكَ، قَالَا: وَأَمَّا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَانُوا شَطْرٌ مِنْهُمْ حَسَنٌ، وَشَطْرٌ مِنْهُمْ قَبِيحٌ فَإِنَّهُمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا تَجَاوَزَ اللهُ عَنْهُمْ». اهـ.